فصل: تفسير الآيات (106- 112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآية رقم (96):

{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)}
وقوله سبحانه: {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ...} الآية تحتمل {حتى} في هذه الآية أنْ تتعلَّقَ ب {يَرْجِعُونَ}، وتحتمل أنْ تكون حرفَ ابتداء، وهو الأظهر بسبب {إذا}؛ لأنها تقتضي جواباً، واختلف هنا في الجواب، والذي أقول به: أَنَّ الجواب في قوله {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَة} وهذا هو المعنى الذي قُصِدَ ذكرُه.
قال * ص *: قال أبو البقاء: {حتى إِذَا} مُتَعَلِّقَةٌ في المعنى ب {حرام} أي: يستمر الامتناع إلى هذا الوقت، ولا عملَ لها في {إذا}. انتهى.
وقرأ الجمهور: {فُتِحَتْ} بتخفيف التاء، وقرأ ابن عامر وحده {فُتِّحَتْ} بالتشديد، ورُوِيَ أنَّ ياجوجَ وماجوجَ يشرفون في كلِّ يوم على الفتح، فيقولون: غداً نفتح، ولا يردون المشيئة إلى الله تعالى، فإذا كان غد وجدوا الرَّدم كأَوَّلِهِ حتى إذا أذن اللّه تعالى في فتحه، قال قائلهم: غداً نفتحه إن شاء اللّه تعالى، فيجدونه كما تركوه قريبَ الانفتاح فيفتحونه حينئذٍ.
* ت * وقد تقدم في سورة الكهف كثير من أخبار يأجوج ومأجوج فأغنانا عن إعادته، وهذه عادتنا في هذا المُخْتَصَرِ أسأل اللّه تعالى أن ينفعنا وإيَّاكم به، ويجعلَه لنا نوراً بين أيدينا، يومَ لا ينفعُ مال ولا بنون إلاَّ مَنْ أتى اللّه بقلب سليم، والحَدَبُ: كل مُسَنَّمٍ من الأرض، كالجبل والظَرِب والكدية، والقبر ونحوه.
وقالت فرقة: المراد بقوله: {وَهُم} يأجوجُ ومأجوجُ، يعني أنهم يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويملؤون الأرضَ من كثرتهم.
وقالت فرقة: المراد بقوله: {وهم} جميعُ العالم، وإنَّما هو تعريف بالبعث من القبور.
وقرأ ابن مسعود: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ جَدَثٍ} بالجيم والثاء المثلثة، وهذه القراءةُ تُؤَيِّدُ هذا التأويلَ، و{ينسلون}: معناه: يسرعون في تطامن، وأسند الطبريُّ عن أبي سعيد قال: «يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون أحداً إلاَّ قتلوه، إلاَّ أَهْلَ الحصون، فيمرُّون على بحيرة طبرية فيمر آخرهم فيقول: كان هنا مرة ماء، قال فيبعث اللّه عليهم النَغَف حتى تكسر أعناقهم، فيقول أهل الحصون: لقد هلك أَعداءُ اللّه، فيدلون رجلاً ينظر، فيجدهم قد هلكوا، قال: فينزل اللّه من السماء ماءً فيقذف بهم في البحر، فيظهر اللّه الأَرض منهم» وفي حديث حذيفة نحوُ هذا، وفي آخره قال: وعند ذلك طلوعُ الشمس مِن مغربها.

.تفسير الآيات (97- 101):

{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)}
وقوله سبحانه: {واقترب الوعد الحق} يريد يومَ القيامة.
وقوله: {فَإِذَا هِيَ}: مذهب سيبويه أنها ضمير القِصَّةِ، وجَوَّز الفرَّاء أن تكون ضمير الإبصار، تقدمت؛ لدَلالة الكلام، ومجيء ما يفسرها، والشخوص بالبصر إحداد النظر دون أن يطرف، وذلك يعترى من الخوف المُفْرِطِ ونحوه، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ...} الآية: هذه الآية مُخَاطَبَةٌ لكُفَّارِ مَكَّةَ، أي: إنكم وأصنامكم حصب جهنم، والحصب: ما توقد به النَّار؛ إمَّا لأنها تحصب به، أي: تُرْمَى، وإمَّا أنْ يكون لغة في الحطب إذا رُمِيَ، وإمَّا قبل أنْ يرمى فلا يُسَمَّى حصباً إلاَّ بتجوز، وحرق الأصنام بالنار على جهة التوبيخ لعابديها، ومن حيث تقع ما لمن يعقل في بعض المواضع، اعترَضَ في هذه الآية عبدُ اللّه بنُ الزِّبعري على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ عِيسَى وعُزَيراً وَنَحْوَهُمَا قَدْ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللّهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا حَصَباً لجهنم؛ فنزلت: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} الآية. والوردو في هذه الآية: ورودُ الدخولِ، والزفيرُ: صوت المُعَذِّبِ، وهو كنهيق الحمير وشبهه إلاَّ أَنه من الصدر.

.تفسير الآيات (102- 105):

{لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}
وقوله سبحانه: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} هذه صفة الذين سبقت لهم الحسنى، وذلك بعد دخولهم الجنة؛ لأَنَّ الحديث يقتضى أَنَّ في الموقف تزفر جهنم زفرةً لا يبقى نبيٌّ ولا مَلَكٌ إلاَّ جثا على ركبتيه، قال البخاريُّ: الحسيس والحس: واحد، وهو الصوتُ الخفيُّ، انتهى. والفزع الأكبر عامٌّ في كلِّ هول يكون يوم القيامة، فكأَنَّ يوم القيامة بجملته هو الفَزَعُ الأكبر.
وقوله سبحانه: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة} يريد: بالسلام عليهم والتبشير لهم، أي: هذا يومكم الذي وُعِدْتُمَْ فيه الثوابَ والنعِيمَ، و{السجل} في قول فرقة: هو الصحيفة التي يُكْتَبُ فيها، والمعنى: كما يطوى السِّجِلُّ من أجل الكتاب الذي فيه، فالمصدر مضاف إلى المفعول؛ وهكذا قال البخاري: السجل: الصحيفة، انتهى، وما خَرَّجه أبو داودَ في مراسيله من أَنَّ السجل: اسم رجل من كُتَّابِ النبي صلى الله عليه وسلم قال السهيليُّ فيه: هذا غير معروف. انتهى.
وقوله سبحانه: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون خبراً عن البعث، أي كما اخترعنا الخلق أوَّلاً على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى، فنبعثهم من القبور.
والثاني أنْ يكونَ خبراً عن أَنَّ كل شخص يُبْعَثُ يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا، ويؤيد هذا قولُه صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةٌ عُرَاةً غُرْلاً؛ {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ}». وقوله: {كَمَا بَدَأْنَآ} الكاف مُتَعَلِّقَةٌ بقوله: {نُّعِيدُهُ}، وقالت فرقة: {الزبور} هنا يعم جميعَ الكتب المُنَزَّلَة؛ لأَنه مأخوذ من: زبرت الكتابَ إذا كتبته، و{الذكر} أراد به اللَّوحَ المحفوظ، وقالت فرقة: {الزبور} هو زبورُ داودَ عليه السلام، و{الذكر}: التوراة.
وقالت فرقة: {الزبور}: ما بعد التوراةِ من الكتب، و{الذكر}: التوراة.
وقالت فرقة: {الأرض} هنا: أرضُ الدنيا، أي: كل ما يناله المؤمنون من الأرض، وقالت فرقة: أراد أرض الجنة، واستشهدوا بقوله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74].

.تفسير الآيات (106- 112):

{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً}: الإشارة ب {هذا} إلى هذ الآيات المتقدمة في قولِ فرقة.
وقالت فرقة: الإشارة إلى القرآن بجملته، والعبادة تتضمن الإِيمان.
وقوله سبحانه: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}: قالت فرقة: هو صلى الله عليه وسلم رحمةٌ للعالمين عموماً أَمَّا للمؤمنين فواضح، وأَمَّا للكافرين فلأَنَّ اللّه تعالى رفع عنهم ما كان يصيب الأُمَمَ والقرونَ السابقة قبلهم من التعجيل بأنواع العذاب المستأصلة؛ كالطوفان وغيره.
وقوله {آذَنتُكُمْ} معناه: عَرَّفْتُكُمْ بنذارتي، وأردتُ أن تشاركوني في معرفة ما عندي من الخوف عليكم من اللّه تعالى، وقال البخاري: {آذَنتُكُمْ}: أعلمتكم، فإذا أعلمتهم فأنت وهم على سواء، انتهى، ثم أخبر أنه لا يعرف تعيينَ وقتٍ لعقابهم، هل هو قريب أم بعيد؟ وهذا أهول وأخوف.
قال * ص *: {وَإِنْ أدري} بمعنى: ما أدري، انتهى. والضمير في قوله: {لَعَلَّهُ} عائد على الإِملاء لهم، و{فِتْنَةٌ} معناه: إمتحان وابتلاء، وال {مَتَاعٌ}: ما يُسْتَمْتَعُ به مُدَّةَ الحياة الدنيا، ثم أمره تعالى أن يقول على جهة الدعاء: {رَبِّ احكم بالحق} وهذا دعاء فيه توعُّدٌ، ثم توكل في آخر الآية واستعانَ باللّه تعالى؛ قال الداووديُّ: وعن قتادةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا شَهِدَ قِتَالاً قَالَ: {رَبِّ احكم بالحق}. انتهى.

.تفسير سورة الحج:

وهي مكية سوى ثلاث آيات، وهي: {هذا خصمان} إلى تمام ثلاث آيات، هذا قول ابن عباس ومجاهد.
وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي، ومنها مدني، وهذا هو الأصح؛ لأن الآيات تقتضي ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 2):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}
قوله عز وجل: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة: التحريكُ العنيف، وذلك مع نفخة الفزع، ومع نفخة الضعق؛ حسبما تضمنه حديثُ أبي هريرة من ثلاث نفخات، والجمهور على أَنَّ {زلزلة الساعة} هي كالمعهودة في الدنيا إلاَّ أَنَّهَا في غاية الشِّدَّةِ، واخْتَلَفَ المفسرون في الزلزلة المذكورة، هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم؟ فقال الجمهور: هي في الدنيا، والضميرُ في {تَرَوْنَهَا} عائِدٌ عندهم على الزلزلة، وقوى قولهم أَنَّ الرضاع والحملَ إنما هو في الدنيا، وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة، والضميرُ عندهم عائد على الساعة، والذهول: الغفلة عن الشيءِ بطريانِ ما يشغل عنه من هَمِّ أَوْجَعَ أو غيره؛ قال ابن زيد: المعنى: تترك وَلَدَهَا للكرب الذي نزل بها.
قلت: وخَرَّجَ البخاريُّ وغيرُه عن أبي سعيد الخدريِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُولُ اللّهُ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يا آدمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وتِسْعَةً إلَى النَّارِ، وَوَاحِداً إلى الجَنَّةِ، فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الحَامِلُ حَمْلَهَا، وَيَشِيبُ الوَلِيدُ، وَتَرَى النَّاسَ سكارى، وَمَا هُمْ بسكارى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ» الحديث. انتهى.
وهذا الحديث نَصٌّ صريح في أَنه يوم القيامة، وانظر قوله: {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [المزمل: 17]، وقوله: {وإذَا العشار عُطِّلَتْ} [التكوير: 4] تجدْهُ موافقاً للحديث، وجاء في حديث أبي هريرة فيما ذكره علي بن معبد: «أَنَّ نَفْحَةَ الْفَزَعِ تَمْتَدُّ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَيُسَيِّرُ اللّهُ الجِبَالَ، فَتَمُرُّ مَرَّ السِّحَابِ، ثُمَّ تَكُونُ سَرَاباً، ثُمَّ تَرْتَجُّ الأَرْضُ بأَهْلِهَا رَجّاً، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَيَشِيبُ الْوُلْدَانُ، ويُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِيْنَ، ثُمَّ يَنْظُرُونَ إلَى السَّمَاءِ، فَإذَا هِيَ كَالْمُهْلِ، ثَمَّ انْشَقَّتْ»، ثُمَّ قَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وَالْمَوْتَى لاَ يَعْلَمُونَ شَيئاً مِنْ ذَلِكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولِ اللّهِ، فَمَنِ اسْتَثْنَى اللّهُ عز وجل حِينَ يَقُولُ: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللّهُ}؟ قال: أولئك هم الشهداء» انتهى مختصراً، وهذا الحديث ذكره الطبريُّ، والثعلبي، وصحه ابن العربي في سراج المريدين.
وقال عبد الحق: بل هو حديث منقطع، لاَ يَصِحُّ، والذي عليه المحققون أنَّ هذه الأهوال هي بعد البعث، قاله صاحب التذكرة وغيره، انتهى.
والحَمْلُ:- بفتح الحاء- ما كان في بطن أو على رأس شجرة.
وقوله سبحانه: {وَتَرَى الناس سكارى} تشبيهاً لهم، أي: من الهم، ثم نفي عنهم السُّكَر الحقيقيَّ الذي هو من الخمر، قاله الحسن وغيره، وقرأ حمزة والكسائيُّ: {سكرى} في الموضعين.
قال سيبويه: وقوم يقولون: سكرى جعلو مثل مرضى، ثم جعلوا: روبى مثل سكرى، وهم المستثقلون نوماً من شرب الرائب.

.تفسير الآيات (3- 4):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}
وقوله سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ}.
قال ابن جريج: هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وأبَيِّ بنِ خَلَفٍ، وقيل في أبي جهل بن هشام، ثم هي بعدُ تتناول كل مَن اتصف بهَذِهِ الصفة، ومجادلتهم في أنَّ اللّه تعالى لا يبعثَ مَنْ يموتُ، والشيطان هنا هو مغويهم من الجن، ويحتمل من الأنس، والمريد: المُتَجَرِّدُ من الخير للشَّرِّ، ومنه الأمرد، وشجرة مرداء، أي: عارية من الورق، وصَرْحٌ مُمَرَّدٌ، أي: مملس، والضمير في {عَلَيْهِ} عائد على الشيطان؛ قاله قتادة، ويحتمل أَنْ يعودَ على المجادِل، وأنه في موضع رفع على المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعِلُه، و{أَنَّه} الثانية عطف على الأُولَى مؤكدة مثلها، وقيل: هي مُكَرَّرَةٌ للتأكيد فقط، وهذا مُعْتَرَضٌ بأَنَّ الشيء لا يؤَكَّد إلاَّ بعد تمامه، وتمامٌ أَنَّ الأولى إنما هو بصلتها في قوله: {السعير} وكذلك لا يُعْطَفُ عليه، ولسيبويه في مثل هذا: أنه بدل، وقيل: أنه الثانية خبر مبتدإٍ محذوف تقديره: فشأنه أَنه يضلّهُ.
قال * ع *: ويظهر لي أَنَّ الضميرَ في {أَنَّهُ} الأولى للشيطان، وفي الثانية لمن الذي هو المتولي، وقرأ أبو عمرو: {فإِنَّه} بالكسر فيهما.

.تفسير الآيات (5- 7):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}
وقوله عز وجل: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مّنَ البعث...} الآية: هذا احتاجٌ على العالم بالبدأة الأُولى، وضَرَبَ سبحانه وتعالى في هذه الآية مَثَلَيْنِ، إذا اعتبرهما الناظر جَوَّزَ في العقل البعثة من القبور، ثم وَرَدَ الشرعُ بوقوع ذلك.
وقوله: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} يريدُ آدم عليه السلام.
{ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} يريد: المنيَّ والنطفة: تقع على قليلِ الماءِ وكثيره.
{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} يريدُ: من الدم الذي تعودُ النطفةُ إليه في الرحم أو المقارن للنطفة، والعَلَقُ الدمُ الغليظ، وقيل: العلق الشديد الحُمْرَة.
{ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} يريد مضغة لحم على قدر ما يمضغ.
وقوله: {مُّخَلَّقَةٍ} معناه: مُتَمَّمَةٌ، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} غير متممة، أي: التي تسقط، قاله مجاهد وغيره، فاللفظة بناءُ مبالغة من خلق، ولما كان الإنسانُ فيه أعضاء متباينة، وكل واحد منها مختصّ بخلق حَسُنَ في جملته تضعيفُ الفعل؛ لأَن فيه خلقاً كثيراً.
وقوله سبحانه: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} قالت فرقة: معناه أمر البعث، {وَنُقِرُّ} أي: ونحن نُقِرُّ في الأرحام، والأجل المُسَمَّى مختلف بحسب حين حين، فَثَمَّ مَنْ يسقط، وثم مَنْ يكمل أمره ويخرج حَيّاً.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} قد تقدَّمَ بيانُ هذه المعاني، والرَّدُّ اإلى أَرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانة، واختلال العقل والقوة، فهذا مثال واحد يقتضي للمُعْتَبِرِ به أن القادِرَ على هذه المناقل، المُتْقِنَ لها قادرٌ على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل، إلى حالها الأولى.
وقوله عز وجل: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} هذا هو المثال الثَّاني الذي يُعْطِي للمعتبر فيه جوازَ بعث الأجساد؛ وذلك أَنَّ إحياءَ الأرض بعد موتها بَيِّنٌ؛ فكذلك الأجساد، و{هامدة}: معناه: ساكنة دارسة بالية، واهتزاز الأرض: هو حركتها بالنبات وغيرِ ذلك مِمَّا يعتريها بالماء، {وَرَبَتْ}: معناه: نشزت وارتفعت؛ ومنه الرَّبْوَةُ وهي المكان المرتفع، والزوج: النوع، والبهيج: من البهجة، وهي الحسن؛ قاله قتادة وغيره.
وقوله: {ذلك} إشارة إلى كل ما تقدم ذكره، وباقي الآية بين.